فصل: محمد برأ المسيح وأمه من افتراء أعدائهما

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى **


*1* الفصل الثاني عشر‏:‏ لو لم يظهر محمد بن عبد الله لبطلت نبوة سائر الأنبياء، بنو إسرائيل قبل موسى وبعده

*2*‏(‏فصل‏)‏ لو لم يظهر محمد بن عبد الله لبطلت نبوة سائر الأنبياء

في أنه لو لم يظهر محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم لبطلت بنوة سائر ‏(‏ص 160‏)‏ الأنبياء، فظهور نبوته تصديق لنبواتهم، وشهادة لها بالصدق، فإرساله من آيات الأنبياء قبله، وقد أشار سبحانه إلى هذا المعنى بعينه، في قوله‏:‏‏(‏جاء بالحق وصدق المرسلين‏)‏ فإن المرسلين بشروا به، وأخبروا بمجيئه؛ فمجيئه هو نفس صدق خبرهم‏.‏

فكأن مجيئه تصديقا لهم، إذ هو تأويل ما أخبروا به، ولا تنافي بين هذا، وبين القول الآخر‏:‏ إن تصديقه المرسلين شهادته بصدقهم، وإيمانه بهم، فإنه صدقهم بقوله‏:‏ ومجيئه فشهد بصدقهم بنفس مجيئه، وشهد بصدقهم بقوله‏.‏

ومثل هذا قول المسيح‏:‏‏(‏ومصدقا لما بين يديه من التوارة، ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد‏)‏ فإن التوراة لما بشرت به، وبنبوته، كان نفس ظهوره تصديقا لها، ثم بشر برسول يأتي من بعده، فكان ظهور الرسول المبشر به تصديقا له، كما كان ظهوره تصديقا للتوراة، فعادة الله في رسله أن السابق يبشر باللاحق، واللاحق يصدق السابق‏.‏

فلو لم يظهر محمد بن عبد الله، ولم يبعث لبطلت نبوة الأنبياء قبله، والله سبحانه لا يخلف وعده، ولا يكذب خبره، وقد كان بشر إبراهيم وهاجر بشارات بينات، ولم نرها تمت، ولا ظهرت، إلا بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فقد بشرت هاجر من ذلك بما لم تبشر به امرأة من العالمين، غير مريم ابنة عمران بالمسيح، على أن مريم بشرت به مرة واحدة، وبشرت هاجر بإسماعيل مرتين، وبشر به إبراهيم مرارا، ثم ذكر الله سبحانه هاجر بعد وفاتها، كالمخاطب لها على ألسنة الأنبياء، ففي التوراة‏:‏‏(‏‏(‏أن الله تعالى قال لإبراهيم‏:‏ قد أجبت دعائك في إسماعيل، وباركت عليه، وكبرته، وعظمته‏)‏‏)‏ هكذا في ترجمة بعض المترجمين‏.‏

وأما في الترجمة التي ترجمها اثنان وسبعون حبرا من أحبار اليهود فإنه يقول‏:‏‏(‏‏(‏وسيلد اثني عشر أمة من الأمم‏)‏‏)‏‏.‏

وفيها‏:‏‏(‏‏(‏لما هربت هاجر من سارة ترائى لها ملك الله، وقال‏:‏ يا هاجر أمة سارة من أين أقبلت وإلى أين تذهبين‏؟‏ ‏!‏ قالت‏:‏ هربت من سيدتي، فقال لها الملك‏:‏ ارجعي إلى سيدتك، واخضعي لها، فإني سأكثر ذريتك، وزرعك، حتى لا يحصون كثرة، وها أنت تحبلين، وتلدين ابنا تسميه إسماعيل؛ لأن الله قد سمع بذلك خشوعك، وهو يكون عين الناس، ويكون يده فوق الجميع، ويد الجميع مبسوطة إليه بالخضوع، ويكون مسكنه على تخوم جميع إخوته‏)‏‏)‏‏.‏

وفي موضع آخر قصة إسكانها وابنها إسماعيل في برية فاران‏.‏

وفيها‏:‏‏(‏‏(‏فقال لها الملك‏:‏ يا هاجر ليفرح روعك، فقد سمع الله تعالى صوت الصبي، قومي فاحمليه، وتمسكي به، فإن الله جاعله لأمة عظيمة، وإن الله فتح عليها، فإذا ببئر ماء، فذهبت وملأت المزادة منه، وسقت الصبي منه‏(‏ص 161‏)‏، وكان الله معها، ومع الصبي حتى تربّى، وكان مسكنه في برية فاران‏)‏‏)‏‏.‏

فهذه أربع بشارات خالصة لأم إسماعيل‏:‏ نزلت اثنتان منها على إبراهيم، واثنتان على هاجر‏.‏

وفي التوراة أيضا بشارات أخرى بإسماعيل وولده، وأنهم أمة عظيمة جدا، وأن نجوم السماء تحصى ولا يحصون، وهذه البشارة إنما تمت بظهور محمد بن عبد الله وأمته‏.‏

فإن ‏(‏‏(‏بني إسحاق‏)‏‏)‏ كانوا لم يزالوا مطرودين مشردين، خولا للفراعنة والقبط، حتى أنقذهم الله بنبيه، وكليمه موسى بن عمران، وأورثهم أرض الشام، فكانت كرسي مملكتهم ثم سلبهم ذلك، وقطعهم في الأرض أمما، مسلوبا عزهم وملكهم‏:‏ قد أخذتهم سيوف السودان، وعلتهم إعلاج الحمران‏.‏

حتى إذا ظهر النبي صلى الله عليه وسلم تمت تلك النبوات، وظهرت تلك البشارات بعد دهر طويل، وعلت بنو إسماعيل على من حولهم، فهشموهم هشما، وطحنوهم طحنا، وانتشروا في آفاق الدنيا، ومدت الأمم أيديهم إليهم بالذل والخضوع، وعلوهم علو الثريا، فيما بين الهند، والحبشة، والسوس الأقصى، وبلاد الترك، والصقالبة، والخزر‏.‏

وملكوا ما بين الخافقين، وحيث ملتقى أمواج البحرين، وظهر ذكر إبراهيم على ألسنة الأمم، فليس صبي من بعد ظهور النبي صلى الله عليه وسلم، ولا امرأة، ولا حر، ولا عبد، ولا ذكر، ولا أنثى، إلا وهو يعرف إبراهيم، وآل ابراهيم‏.‏

وأما ‏(‏‏(‏النصرانية‏)‏‏)‏ وإن كانت قد ظهرت في أمم كثيرة جليلة، فإنه لم يكن لهم في محل إسماعيل وأمه هاجر سلطان ظاهر، ولا عز قاهر البتة، ولا صارت أيدي هذه الأمة فوق أيدي الجميع، ولا امتدت إليهم أيدي الأمم بالخضوع‏.‏

وكذلك سائر ما تقدم من البشارات التي تفيد بمجموعها العلم القطعي، بأن المراد بها محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وأمته، فإنه لو لم يقع تأويلها بظهوره صلى الله عليه وسلم لبطلت تلك النبوات؛ ولهذا لما علم الكفار من أهل الكتاب أنه لا يمكن الإيمان بالأنبياء المتقدمين، إلا بالإيمان بالنبي الذي بشروا به، قالوا‏:‏

نحن في انتظاره، ولم يجئ بعد‏.‏

ولما علم بعض الغلاة في كفره، وتكذيبه منهم أن هذا النبي في ولد إسماعيل، أنكروا أن يكون لإبراهيم ولد اسمه إسماعيل، وأن هذا لم يخلقه الله‏.‏

ولا يكثر على اليهود مثل ذلك، كما لم يكثر على النصارى الذين سبوا رب العالمين أعظم مسبة أن يطعنوا في ديننا، وينتقصوا نبينا صلى الله عليه وسلم‏.‏

ونحن نبين أنهم لا يمكنهم أن يثبتوا للمسيح فضيلة، ولا نبوة، ولا آية، ولا معجزة، إلا بإقرارهم أن محمدا رسول الله؛ وإلا فمع تكذيبه لا يمكن أن يثبت للمسيح شيء من ذلك البتة‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ ‏(‏ص 162‏)‏

*2*  لا يمكنهم أن يثبتوا للمسيح فضيلة ولا نبوة إذا كفروا بمحمد، اليهود أساتذة النصارى في قصة الصلب وأخبار المسيح

فنقول‏:‏ إذا كفرتم معاشر النصارى بالقرآن، وبمحمد صلى الله عليه وسلم، فمن أين لكم أن تثبتوا لعيسى فضيلة، أو معجزة، ومن نقل إليكم عنه آية، أو معجزة‏؟‏ ‏!‏

فإنكم إنما تبعتم من بعده بنيف على مائتين وعشرات من السنين، أخبرتم عن منام رؤى فأسرعتم إلى تصديقه، وكان الأولى لمن كفر بالقرآن أن ينكر وجود عيسى في العالم لأنه لا يقبل قول اليهود فيه، ولا سيما وهم أعظم أعدائه الذين رموه وأمه بالعظائم‏.‏

فأخبار المسيح والصليب إنما شيوخكم فيها اليهود، وهم فيما بينهم مختلفون في أمره أعظم اختلاف، وأنتم مختلفون معهم في أمره، فاليهود تزعم أنهم حين أخذوه حبسوه في السجن أربعين يوما، و قالوا ما كان لك أن تحبسوه أكثر من ثلاثة أيام ثم تقتلوه، إلا أنه كان يعضده أحد قواد الروم، لأنه كان يداخله في صناعة الطب عندهم‏.‏

وفي الأناجيل التي بأيديكم ‏(‏‏(‏أنه أخذ صبح يوم الجمعة، وصلب في الساعة التاسعة من اليوم بعينه‏)‏‏)‏ فمتى تتوافقون مع اليهود في خبره، واليهود مجمعون أنه لم يظهر له معجزة، ولا بدت منه لهم آية، غير أنه طار يوما، وقد هموا بأخذه فطار على أثره آخر منهم، فعلاه في طيرانه، فسقط إلى الأرض بزعمهم‏.‏

وفي الإنجيل الذي بأيديكم في غير موضع ما يشهد أنه لا معجزة له، ولا آية‏!‏‏!‏

فمن ذلك أن فيه منصوصا ‏(‏‏(‏أن اليهود قالوا له يوما‏:‏ ماذا تفعل حتى تنتهي به إلى أمر الله تعالى‏؟‏ فقال‏:‏ أمر الله إن تؤمنوا بمن بعثه، فقالوا له‏:‏ وما آيتك التي ترينا، ونؤمن بك، وأنت تعلم أن آبائنا قد أكلوا المن والسلوى بالمفاوز‏؟‏ قال‏:‏ إن كان أطعمكم موسى خبزا، فأنا أطعمكم خبزا سماويا‏)‏‏)‏ يريد نعيم الآخرة، فلو عرفوا له معجزة ما قالوا ذلك‏.‏‏.‏‏.‏

وفي الإنجيل الذي بأيديكم أن اليهود قالت له‏:‏ ‏(‏‏(‏ما آيتك التي نصدقك بها‏؟‏‏)‏‏)‏ قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اهدموا البيت أبنيه لكم في ثلاثة أيام‏)‏‏)‏‏.‏ فلو كانت اليهود تعرف له آية لم تقل هذا، ولو كان قد أظهر لهم معجزة لذكرهم بها حينئذ‏.‏‏.‏‏.‏

وفي الإنجيل الذي بأيديكم أيضا ‏(‏‏(‏أنهم جاؤا يسألونه آية فقذفهم، وقال‏:‏ إن القبيلة الفاجرة الخبيثة تطلب آية، فلا تعطى ذلك‏)‏‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏

وفيه أيضا ‏(‏‏(‏أنهم كانوا يقولون له وهو على الخشبة بظنكم إن كنت المسيح فأنزل نفسك فنؤمن بك، يطلبون بذلك آية، فلم يفعل‏)‏‏)‏‏.‏

فإذا كفرتم معاشر النصارى بالقرآن، لم يتحقق لعيسى بن مريم ‏(‏ص 163‏)‏ آية، ولا فضيلة؛ فإن أخباركم عنه، وأخبار اليهود، لا يلتفت إليها لاختلافكم في شأنه أشد الاختلاف، وعدم تيقنكم لجميع أمره‏.‏

وكذلك اجتمعت اليهود على أنه لم يدع شيئا من الإلهية التي نسبتم إليه أنه ادعاها، وكان أقصى مرادهم أن يدعي، فيكون أبلغ في تسلطهم عليه، وقد ذكر السبب في استفاضة ذلك عنه، وهو أن أحبارهم، وعلماءهم، لما مضى وبقي ذكره، خافوا أن تصير عامتهم إليه، إذ كان على سنن تقبله قلوب الذي لا غرض لهم، فشنعوا عليه أمورا كثيرة، ونسبوا إليه دعوى الإلهية تزهيدا للناس في أمره‏.‏

*2*  أخبار اليهود والنصارى عن عيسى ونسبه لا يوثق بها‏.‏‏.‏‏.‏

ثم إن اليهود عندهم من الاختلاف في أمره ما يدل على عدم تيقنهم بشيء من أخباره‏:‏ فمنهم من يقول‏:‏ أنه كان رجلا منهم، ويعرفون أباه وأمه، وينسبونه لزانية، وحاشاه، وحاشا أمه الصديقة الطاهرة البتول، التي لم يقرعها فحل قط، قاتلهم الله أنى يؤفكون، ويسمون أباه الزاني البنديرا الرومي، وأمه مريم الماشطة‏.‏

ويزعمون أن زوجها يوسف بن يهودا، وجد البنديرا عند على فراشها، وشعر بذلك فهجرها، وأنكر ابنها، ومن اليهود من رغب عن هذا القول، وقال‏:‏ إنما أبوه يوسف بن يهودا، الذي كان زوجا لمريم‏.‏

ويذكرون أن السبب في استفاضة اسم الزنا عليه أنه‏:‏ بينا هو يوما مع معلمه بهشوع بن برخيا، وسائر التلاميذ في سفر فنزلوا موضعا فجاءت امرأة من أهله، وجعلت تبالغ في كرامتهم، فقال بهشوع‏:‏ ما أحسن هذه المرأة‏؟‏ ‏!‏ يريد أفعالها، فقال عيسى بزعمهم‏:‏ لولا عور في عينها، فصاح بهشوع وقال له‏:‏ يا ممزار - ترجمته‏:‏ يا زنيم - أتزني بالنظر، وغضب غضبا شديدا، وعاد إلى بيت المقدس، وحرم اسمه، ولعنه في أربعمائة قرن، فحينئذ لحق ببعض قواد الروم، وداخله بصناعة الطب، فقوي بذلك على اليهود، وهم يومئذ في ذمة قيصر بتاريوش، وجعل يخالف حكم التوراة، ويستدرك عليها، ويعرض عن بعضها، إلى أن كان من أمره ما كان‏.‏

وطوائف من اليهود يقولون غير هذا‏:‏ أنه كان يلاعب الصبيان بالكرة، فوقعت منهم بين جماعة من مشايخ اليهود، فضعف الصبيان عن استخراجها من بينهم حياء من المشايخ، فقوي عيسى، وتخطى رقابهم، وأخذها، فقالوا له‏:‏ ما نظنك إلا زنيما‏.‏

ومن اختلاف اليهود في أمره أنهم يسمون أباه بزعمهم الذي كان خطب مريم يوسف بن يهودا النجار‏.‏

وبعضهم يقول‏:‏ إنما هو يوسف الحداد‏.‏

والنصارى تزعم أنها كانت ذات بعل، وإن زوجها يوسف بن يعقوب‏.‏

وبعضهم يقول‏:‏ يوسف بن آل‏.‏

وهم ‏(‏ص 164‏)‏ يختلفون أيضا في آبائه، وعددهم إلى إبراهيم، فمن مقل، ومن مكثر‏.‏

فهذا ما عند اليهود، وهم شيوخكم في نقل الصلب، وأمره، وإلا فمن المعلوم أنه لم يحضره أحد من النصارى، وإنما حضره اليهود، وقالوا‏:‏

قتلناه وصلبناه، وهم الذين قالوا فيه ما حكيناه عنهم، فإن صدقتموهم في الصلب، فصدقوهم في سائر ما ذكروه، وإن كذبتم فيما نقلوه عنه، فما الموجب لتصديقهم في الصلب، وتكذيبهم أصدق الصادقين الذي قامت البراهين القطعية على صدقه، أنهم ما قتلوه وما صلبوه؛ بل صانه الله، وحماه، وحفظه، وكان أكرم على الله، وأوجه عنده، من أن يبتليه بما تقولون أنتم واليهود‏.‏

*2* النصارى أشد الأمم افتراقا في دينهم، ما اتفقت عليه فرقهم المشهورة

وأما خبر ما عندكم أنتم فلا نعلم أمة أشد اختلافا في معبودها، ونبيها، ودينها منكم، فلو سألت الرجل، وامرأته، وابنته، وأمه، وأباه عن دينهم لأجابك كل منهم بغير جواب الآخر‏.‏

ولو اجتمع عشرة منهم يتذاكرون الدين لتفرقوا عن أحد عشر مذهبا مع اتفاق فرقهم المشهورة اليوم على القول بالتثليث وعبادة الصليب، وأن المسيح ابن مريم ليس بعبد صالح، ولا نبي، ولا رسول، وأنه إله في الحقيقة، وأنه هو خالق السموات، والأرض، والملائكة، والنبيين، وأنه هو الذي أرسل الرسل، وأظهر على أيديهم المعجزات، والآيات‏.‏

وأن للعالم إلها هو أب والد لم يزل، وأن ابنه نزل من السماء، وتجسم من روح القدس، ومن مريم، وصار هو وابنها الناسوتي إلها واحدا، ومسيحا واحدا، وخالقا واحدا، ورازقا واحدا، وحبلت به مريم وولدته، وأخذ وصلب، وألم ومات، ودفن، وقام بعد ثلاثة أيام، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين أبيه،

قالوا‏:‏ والذي ولدته مريم، وعاينه الناس، وكان بينهم، هو الله، وهو ابن الله، وهو كلمة الله، فالقديم الأزلي، خالق السموات والأرض هو الذي حبلت به مريم، وأقام هناك تسعة أشهر، وهو الذي ولد، ورضع، وفطم، وأكل، وشرب، وتغوط، وأخذ، وصلب، وشد بالحبال، وسمّرت يداه‏.‏

*2* اختلاف فرقهم المشهورة في شخصية المسيح

ثم اختلفوا‏:‏

فقالت ‏(‏‏(‏اليعقوبية‏)‏‏)‏ - أتباع يعقوب البرادعي ولقب بذلك لأن لباسه كان من خرق برادع الدواب، يرقع بعضها ببعض، ويلبسها - إن المسيح طبيعة واحدة من طبيعتين‏:‏

‏(‏‏(‏أحداهما‏)‏‏)‏‏:‏ طبيعة الناسوت‏.‏

‏(‏‏(‏والأخرى‏)‏‏)‏‏:‏ طبيعة ‏(‏ص 165‏)‏ اللاهوت‏.‏

وإن هاتين الطبيعتين تركبتا فصار إنسانا واحدا، وجوهر واحدا، وشخصا واحدا، فهذه الطبيعة الواحدة، والشخص الواحد‏:‏ هو المسيح، وهو إله كله، وإنسان كله، وهو شخص واحد، وطبيعة واحدة من طبيعتين‏.‏

وقالوا‏:‏ إن مريم ولدت الله، وإن الله سبحانه قبض عليه، وصلب، وسمر، ومات، ودفن، ثم عاش بعد ذلك‏.‏

وقالت ‏(‏‏(‏الملكية‏)‏‏)‏ - وهم الروم نسبة إلى دين الملك، لا إلى رجل يدعى ملكانيا، هو صاحب مقالتهم كما يقوله بعض من لا علم له بذلك - إن الابن الأزلي الذي هو الكلمة، تجسدت من مريم تجسدا كاملا، كسائر أجساد الناس، وركبت في ذلك الجسد نفسا كاملة بالعقل، والمعرفة، والعلم، كسائر أنفس الناس‏.‏

وأنه صار إنسانا بالجسد، والنفس الذين هما من جوهر الناس إلها بجوهر اللاهوت كمثل أبيه لم يزل، وهو إنسان بجوهر الناس مثل‏:‏ إبراهيم، وموسى، وداود، وهو شخص واحد، لم يزد عدده، وثبت له جوهر اللاهوت، كما لم يزل، وصح له جوهر الناسوت الذي لبسه ابن مريم، وهو شخص واحد لم يزد عدده، وطبيعتان، ولكل واحدة من الطبيعتين مشيئة كاملة، فله بلاهوته مشيئة مثل الأب، وله بناسوته مشيئة كمشيئة إبراهيم، وداود‏.‏

وقالوا‏:‏ إن مريم ولدت ‏(‏‏(‏المسيح‏)‏‏)‏ وهو اسم يجمع اللاهوت والناسوت، وقالوا‏:‏ إن الذي مات، هو الذي ولدته مريم، وهو الذي وقع عليه الصلب، والتسمير، والصفع، والربط بالحبال، واللاهوت لم يمت، ولم يألم، ولم يدفن‏.‏

قالوا‏:‏ وهو إله تام بجوهر لاهوته، وإنسان تام بجوهر ناسوته، وله المشيئتان‏:‏

مشيئة اللاهوت‏.‏

ومشيئة الناسوت‏.‏

فأتوا بمثل ما أتى به اليعقوبية من أن مريم ولدت الإله، إلا أنهم بزعمهم نزهوا الإله عن الموت‏.‏

وإذا تدبرت قولهم وجدته في الحقيقة هو قول اليعقوبية، مع تنازعهم، وتناقضهم فيه، فاليعقوبية أطرد لكفرهم لفظا ومعنى‏.‏‏.‏‏.‏

وأما ‏(‏‏(‏النسطورية‏)‏‏)‏ فذهبوا إلى القول بأن المسيح شخصان، وطبيعتان، لهما مشيئة واحدة، وأن طبيعة اللاهوت، لما وجدت بالناسوت، صار لهما إرادة واحدة، واللاهوت لا يقبل زيادة، ولا نقصان، ولا يمتزج بشيء، والناسوت يقبل الزيادة والنقصان، فكان المسيح بذلك إلها وإنسانا، فهو الإله بجوهر اللاهوت الذي لا يقبل الزيادة والنقصان، وهو إنسان بجوهر الناسوت الذي يقبل الزيادة والنقصان‏.‏

وقالوا‏:‏ إن مريم ولدت المسيح بناسوته، وإن اللاهوت لم يفارقه قط‏.‏

وكل هذه الفرق استنكفت أن يكون المسيح عبد الله، وهو لم يستنكف من ذلك، ورغبت به عن عبودية الله، وهو لم يرغب عنها؛ بل ‏(‏ص 166‏)‏

أعلى منازل العبودية، عبودية الله، ومحمد وإبراهيم خير منه، وأعلى منازلهما تكميل مراتب العبودية، فالله رضيه أن يكون له عبدا، فلم ترض المثلثة بذلك‏.‏

‏.‏‏.‏‏.‏وقالت ‏(‏‏(‏الأريوسية‏)‏‏)‏ منهم وهم أتباع أريوس‏:‏ أن المسيح عبد الله كسائر الأنبياء والرسل، وهو مربوب، مخلوق، مصنوع‏)‏‏)‏ وكان النجاشي على هذا المذهب‏.‏

وإذا ظفرت المثلثة بواحد من هؤلاء قتلته شر قتلة، وفعلوا به ما يفعل بمن سب المسيح، وشتمه أعظم سب‏.‏

والكل من تلك الفرق الثلاث، عوامهم لا تفهم مقالة خواصهم على حقيقتها؛ بل يقولون‏:‏ إن الله تخطى مريم، كما يتخطى الرجل المرأة، وأحبلها، فولدت له ابنا، ولا يعرفون تلك الهذيانات التي وضعها خواصهم‏.‏

فهم يقولون الذي تدندنون حوله، نحن نعتقده بغير حاجة منا إلى معرفة الأقانيم الثلاثة من الطبيعتين والمشيئتين، وذلك للتهويل والتطويل، وهم يصرحون بأن مريم والدة الإله، والله أبوه، وهو الابن‏.‏

فهذا الزوج، والزوجة، والولد ‏(‏وقالوا اتخذ الرحمن ولدا، لقد جئتم شيئا إدا، تكاد السموات يتفطرن منه، وتنشق الأرض، وتخر الجبال هدا، إن دعوا للرحمن ولدا، وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا، إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا، لقد أحصاهم وعدهم عدا، وكلهم آتيه يوم القيمة فردا‏)‏‏.‏

*2* محمد برأ المسيح وأمه من افتراء أعدائهما وأنزله المنزلة العالية ونزه الله عن افتراء المثلثة عليه

فهذه أقوال أعداء المسيح من اليهود، والغالين فيه من النصارى، فبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم، وبما أزال الشبهة في أمره، وكشف الغمة، وبرأ المسيح وأمه من افتراء اليهود وبهتهم، وكذبهم عليهما، ونزه رب العالمين، وخالق المسيح وأمه، مما افتراه عليه النصارى الذين سبوه أعظم السب‏.‏

فأنزل المسيح أخاه بالمنزلة التي أنزله الله بها، وهي أشرف منازله، فآمن به، وصدقه، وشهد له بأنه عبد الله، ورسوله، وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم، العذراء، البتول، الطاهرة، الصديقة، سيدة نساء العالمين، في زمانها، وقرر معجزات المسيح، وآياته، وأخبر عن ربه تعالى بتخليد من كفر بالمسيح في النار، وأن ربه تعالى أكرم عبده ورسوله، ونزهه وصانه أن ينال النصارى منه ما زعمته النصارى، أنهم نالوه منه‏.‏

بل رفعه إليه مؤيدا منصورا، لم يشكه أعداؤه بشوكة، ولا نالته أيديهم بأذى، فرفعه إليه، وأسكنه سماءه، وسيعيده إلى الأرض، ينتقم به من مسيح الضلال، وأتباعه، ثم يكسر به الصليب، ويقتل به الخنزير، ويعلي به الإسلام، وينصر به ملة أخيه، وأولى الناس به محمد عليهما أفضل الصلاة والسلام‏.‏

فإذا وضع هذا القول في المسيح في كفة، وقول النصارى ‏(‏ص 167‏)‏، تبين لكل من له أدنى مسكة من عقل، ما بينهما من التفاوت، وأن تفاوتهما كتفاوت ما بينه، وبين قول اليهود فيه، وبالله التوفيق‏.‏‏.‏‏.‏

فلولا محمد صلى الله عليه وسلم، لما عرفنا أن المسيح ابن مريم الذي هو رسول الله، وعبده، وكلمته، وروحه موجود أصلا؛ فإنّ هذا المسيح الذي أثبته اليهود، من شرار خلق الله، ليس بمسيح الهدى، والمسيح الذي أثبته النصارى، من أبطل الباطل، لا يمكن وجوده في عقل، ولا فطرة، ويستحيل أن يدخل في الوجود أعظم استحالة‏.‏

ولو صح وجوده، لبطلت أدلة العقول، ولم يبق لأحد ثقة، بمعقول أصلا؛ فإن استحالة وجوده، فوق استحالة جميع المحالات، ولو صح ما يقول لبطل العالم، واضمحلت السموات والأرض، وعدمت الملائكة، والعرش، والكرسي، ولم يكن بعث ولا نشور، ولا جنة، ولا نار‏.‏

ولا يستعجب من إطباق أمة الضلال، الذين شهد الله أنهم أضل من الأنعام على ذلك، فكل باطل في الوجود ينسب إلى أمة من الأمم فإنها مطبقة عليه، وقد تقدم ذكر إطباق الأمم العظيمة، التي لا يحصيها إلا الله، على الكفر والضلال، معاينة الآيات البينات، فللنصارى أسوة بإخوانهم من أهل الشرك، والضلال‏!‏

*2* النصارى تلقوا أصول دينهم عن أصحاب المجامع‏.‏ 10 مجامع لعلماء النصارى يكفر فيها ببعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضا، قصة المسيح قبل بعثه وبعده إلى أن رفع وما لاقى أتباعه من اليهود والقياصرة